بقلم عمر الفطايري
في مشهد بدا لافتًا بقدر ما كان مستفزًا، ظهر وزير خارجية النظام الإيراني في قلب العاصمة المصرية، متصدرًا مأدبة عشاء سياسية وإعلامية، يجلس إلى جواره عمرو موسى، الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، ومحمد العرابي، وزير الخارجية المصري الأسبق. لقاء لم يحمل طابعًا بروتوكوليًا عابرًا، بل بدت فيه الرسالة واضحة ومباشرة: مصر تفتح صفحة جديدة مع طهران، دون شروط، دون مراجعات، ودون محاسبة على عقود من الفوضى التي غذّاها النظام الإيراني في العالم العربي.
لم تُذكر كلمة واحدة في اللقاء عن دعم إيران الممنهج للميليشيات الطائفية، ولا عن تدخلاتها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، ولا عن قمع الحريات في الداخل الإيراني، ولا عن إعدامات المعارضين، ولا عن مشروعها الثيوقراطي المغلق الذي لا يؤمن بالديمقراطية أو حقوق الإنسان. صمتٌ كامل عن كل ذلك، وكأن ذاكرة السياسة قد مُسحت، أو كأن ما جرى ويجري لا يعني شيئًا.
اللافت أن الشخصيتين المصريتين الحاضرتين – موسى والعرابي – لا تمثلان شخصيات عابرة في المجال العام المصري والعربي، بل لهما باع طويل في الدفاع عن مفاهيم الدولة المدنية والاعتدال السياسي. لذلك، تطرح الصورة تساؤلات أخلاقية وسياسية عميقة:
هل هذه براغماتية سياسية مفرطة؟ أم انخراط محسوب في مشروع إقليمي يعيد رسم توازنات المنطقة بعيدًا عن اعتبارات الديمقراطية والمساءلة؟
إيران – التي ما تزال تُدار من قبل نخبة دينية مغلقة وتمنح شرعية مطلقة للمرشد الأعلى – ليست شريكًا طبيعيًا في “السلام الإقليمي”. بل على العكس، تُعدّ أحد أبرز مصادر التوتر في المنطقة، عبر وكلائها المسلحين، واستراتيجيتها المعروفة بتصدير الأزمات إلى جوارها العربي.
المشهد إذًا ليس عشاءً دبلوماسيًا فحسب، بل تحول رمزي في السياسة المصرية، ينذر بإعادة تعريف مفهوم “المصلحة الوطنية” خارج أي مرجعية أخلاقية. فالكارثة السورية، والانهيار العراقي، والجحيم اليمني – جميعها لم تعد، على ما يبدو، تشكل عوائق أمام نسج العلاقات، ما دام هناك ما يُسمى “مصالح متبادلة”.
وسط هذا التحول، تبرز تساؤلات مشروعة من قلب المجال العام:
من قرّر فتح هذا الباب مع نظام لا يزال يُحكم بالمشانق والسجون السرية؟
لماذا الآن؟ وفي أي سياق إقليمي أو دولي يأتي هذا التقارب؟
من يُحدد طبيعة العلاقة مع أنظمة تعادي جوهر الحريات والتعددية والديمقراطية؟
بأي منطق تُمنح طهران شرعية سياسية وثقافية في القاهرة، في وقت تُضيَّق فيه المساحات على المعارضين المصريين أنفسهم داخل بلدهم؟
لا أحد يعترض على الحوار، ولا على الانفتاح المشروط. لكن الاعتراض كلّه على “تبييض” أنظمة الاستبداد، وتسويقها كجزء طبيعي من منظومة الاستقرار، رغم أنها تمثل نقيضه.
إنه مشهد يطرح تحديات ليس فقط للسياسة الخارجية المصرية، بل لمفهوم الدولة المدنية ذاته. فحين تُستدعى رموزها لتضفي شرعية رمزية على سلطة قمعية، دون أن تملك حق الاعتراض أو المحاسبة، فإن الأمر يتجاوز البراغماتية إلى شرعنة الخراب باسم المصالح.