منذ زمان بعيد وكنت بحث عن سعادة دائمة، ولكنني اكتشفت اخيرًا أن السعادة في البساطة .. بساطة الحياة هي التي تجلب السعادة .. إن هؤلاء البسطاء الذين يعيشون ليومهم وقد حيزت لهم الدنيا يجدون سعادة غير السعادة التي يتمناها أولئك الباحثون عنها في الملاهي..
لم أكن اتخيل أن تلك السعادة يمكن أن أشاهد تفاصيلها على "عربية فول" في أحد أزقة حي بولاق الدكرور، ذلك الحي الشعبي الذي ترى فيه عينة ممتازة تعبر عن الشعب المصري الحقيقي "طبقة السعداء".
فقط هذه السعادة كامنة في رضا داخل النفس تحول إلى قناعة أن رغيف خبزك مصنوع لك وإن تهافتت عليه الأفواه بأسنانها الحادة ثاقبةً عيون أصحابها في تضاريسه .. وإن تأخر مجيئه لك فقناعتهم تلك لا تهتز ولا تتغير..
أولئك الطيبون الذين أيقنوا أن البسمة بلا ثمن .. وأن الحب بلا مقابل .. أولئك الذين يقراون عليك السلام بقلوبهم قبل ألسنتهم .. أسنانهم البيضاء التي حُرمت من طعم السكر المطحون على كعك العيد شكرت لك جميل صنيعك حين تنحيت بجسدك ليمر أحدهم..
أوفياء هم بالكلمة لا تملأ قلوبهم غلول الماضي الكئيب وتراهات وسخافات الأحاديث المملة التي يبيع بها البعض حسناته نظير ساعة من الرضا المزيف جراء حالة من التملق يسعى إليها البعض سعيًا.
تلك قلوب حفظت ربها فحفظها الله وعصمها من رياء ربما كان هذا الرياء سبيل من سبل جهنم على الأرض..
قلوب طفولية قام أصحابها ليصلحوا بين متخاصمين اثنين أثناء تناول الطعام بذكر الصلاة على النبي العدنان، قلوب هي ليست ساذجة بل شع منها نور لا تراه عيون المتلهفون والمتكالبون على الدنيا الغرورة، فبلغ ضيها عنان السماء ففرحت به من هم أطهر وأنقى..
سعيدة هي قلوبهم .. سعيدة هي نفوسهم، حتى مواقفهم سعيدة لا تتخللها تلك الرسميات العصبية. فقط كل هذا؛ لأنها اجتمعت في أطار موقفي جمع بين المكان الذي اجتاحت الاجواء فيه كل معاني البساطة، والزمن القليل قبيل صلاة الفجر بنصف ساعة.
تواشيح وابتهالات من زاوية صغيرة للصلاة، ونغمات كلثومية أتت من بعيد .. وضحكات شباب عادوا من عناء عملهم تزين أفواههم البسمات الطامحة فقط إلى يوم جديد يعيشون فيه عناءًا جديدًا..
وها هو رجلاً جاوز السبعين تهشمت بعض أسنانه ليعض ببعضها على لفافة من "الطعمية الساخنة" .. وكوب من الشاي المغلي تصاعدت منه نكهة النعناع المنعشة.. بجانبه رجل حمل على صدره صليبًا شاركه الطعام..
وعيون امرأة اخذ من جسدها الزمن مأخذه تواري الحسرة خلف عيونها المسكينة وطفلها ناظرٌ في سذاجة إلى طعام لم يخلو من رقائق البطاطا المحمرة سعيد بما سيلتهمه بعد قليل.
كلهم جميعًا .. كلهم مصر البسيطة الجميلة .. على مائدة واحدة جمعتهم "عربية فول" .. ليتوقف بعدها الجميع دون استثناء عن ملحمة الالتهام النهم للطعام حين سمعوا صوت المنادي يقول: "الله اكبر .. الله أكبر..".