في عامٍ واحد، صُدمت مصر بجريمتين مروّعتين: هتك عرض طفلة داخل حمام مسجد في نهار رمضان، وهتك عرض طفل في مدرسة الكرمة القبطية. كلاهما فعل إجرامي ضد براءة الأطفال، لكن ما حدث بعد الجريمتين كان أكثر فداحة من الجريمة نفسها: تحوّلت المأساة إلى فرصة لتضليل الرأي العام، وتصفية الحسابات الطائفية، والتلاعب بالدين، وسط صمت أو تواطؤ من الدولة، وتغييبٍ للعدالة.
طفلة في حضرة الله.. جريمة في قلب المسجد
أن يُرتكب هتك عرض في نهار رمضان، وفي مكان يُفترض أنه “مقدّس” مثل المسجد، فذلك ليس مجرد اعتداء على الجسد، بل على الرموز، على الأمان، على قدسية الأماكن التي كان يُفترض أن تحمي الأطفال لا أن تبتلعهم. جريمة هتك العرض في هذا المكان تحمل أبعادًا أخرى غير الجريمة نفسها، إذ تلطخ صورة المكان الذي يجب أن يكون ملاذًا للراحة الروحية والأمن الجسدي. الطفلة لم تُغتصب فقط، بل خذلتها المنظومة بأكملها: المكان الذي كان يُفترض به أن يحميها، والمجتمع الذي اختار الصمت، والدين الذي تم استخدامه لطمس الحقيقة بدلًا من الدفاع عن الضحية.
مدرسة الكرمة.. من الجريمة إلى الفتنة الطائفية
أما في مدرسة الكرمة، فقد وقع طفل ضحية لجريمة هتك عرض أيضًا. لكن الردّ لم يكن تحقيقًا حقيقيًا، أو دعمًا للضحية، أو مساءلة للمذنب، بل تحول الأمر إلى انفجار في خطاب الكراهية الطائفية. الجريمة لم تُناقش بجدّيتها، بل حولت إلى ساحة تحريض وتصفية حسابات. ما حدث بعد الحادث هو أنه تم ربط الجريمة بدين المدرسة والطائفة التي ينتمي إليها الضحية، مما جعل هذه القضية أكثر تعقيدًا. في هذه الحالة، كان التحريض الطائفي أكثر من مجرد هجوم على الجاني؛ كان هجومًا على مجموعة بأكملها، وهو ما زاد من عمق الانقسام الطائفي في المجتمع.
الدين غطاءً للتستّر وسلاحًا للتحريض
في كلتا الحالتين، تم استخدام الدين بشكل سيء: في المسجد، صمت كثيرون لأن الجاني “من بيننا” ويجب حماية صورة المكان، وهو ما يعكس مشكلة كبيرة في المجتمع المصري من حيث التواطؤ السكوتي. أما في المدرسة، فصوت الكراهية علا لأن الجاني كان “من الآخر”، ولذا كان من الضروري فضح المؤسسة بأكملها. في الحالتين، اختفى صوت الحق، وغاب صوت الأطفال، واحتلت الكراهية مكان العدالة. إن استخدام الدين كسلاح في غير موضعه يساهم في تضييع العدالة، ويحوّل الضحايا إلى أدوات في صراعات سياسية وطائفية.
طمسٌ لما تبقى من العدالة
ما يجمع بين القصتين ليس فقط الجريمة، بل طمس العدالة بعد وقوعها. غابت الدولة كحاضنة للحقوق، وتغيب المجتمع كأداة للعدالة، بينما تراجعت السلطة القانونية أمام الحسابات الطائفية. لم يُحاسب الجاني، ولم تُحترم كرامة الضحية، بل تحوّلت القضية إلى أداة للتحريض ووسيلة لتمرير خطاب الكراهية. هنا، تظهر أهمية وجود دولة قانون تحمي حقوق الضحايا وتضمن محاسبة المجرمين دون النظر إلى الدين أو الطائفة.
العدالة لا تتحقق بالكراهية، ولا بالصمت ولا بالانتقائية
إن العدالة في مثل هذه الجرائم تتطلب شيئًا واحدًا: الحقيقة. أن يُسمّى الجرم باسمه، وأن يُساق المجرم إلى المحاكمة، وأن تُرفع الغطاء عن الجريمة، لا أن يُسدل عليها ستار الدين أو الطائفة. ولذلك، يجب أن يتوقف خطاب الكراهية، ويجب أن تُفعّل الدولة والقانون والعدالة بلا انتقائية، لا من أجل الطائفة، بل من أجل الضحايا. من أجل الطفلة التي انتهُك جسدها داخل مسجد، ومن أجل الطفل الذي انتهُك جسده داخل مدرسة، من أجل أن تظل الطفولة في هذا البلد لها من يحميها، لا من يستخدمها في الصراعات السياسية أو الطائفية.
مسلسل “لام شمسية” يكشف القضية
من الجدير بالذكر أن مسلسل لام شمسية الذي عُرض في رمضان الماضي قد تطرق لهذه القضية الإنسانية بشكل مؤثر، إذ ناقش في إطار درامي قضية اغتصاب الأطفال في الأماكن المقدسة، مما سلط الضوء على الجريمة بشكل درامي قبل حدوث هذه الحوادث الواقعية، وأثار العديد من التساؤلات حول كيفية التعامل مع مثل هذه الجرائم. هذا المسلسل كان محاولة لإثارة الوعي حول الأبعاد الاجتماعية والنفسية لهذه الجريمة في المجتمع المصري، وهو ما جعل القضية تحظى باهتمام أكبر، حتى بعد وقوع الحادثين المأساويين.
من يُنصف الأطفال؟
حين تُرتكب جريمة هتك عرض لطفلة داخل مسجد، ولا تهتزّ دولة، ولا تصرخ منابر، فاعلم أن الطفولة وحدها لا تكفي لتحرّك الضمير. وحين يُعتدى على طفل في مدرسة قبطية، وتُستخدم المأساة للتحريض الطائفي بدل نصرة الضحية، فاعلم أن الكراهية طغت على الإنسان.
العدالة لا تُبنى على طائفة الجاني، ولا على دين الضحية، بل على مبدأ واحد: لا حماية لمجرم، ولا صمت على حق، ولا عدالة تُنجز بالكراهية.