بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
“الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ◊ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ◊ إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ”
“أمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له”
تمر الذكرى الثانية على اقتحام بيتي في ليلة السابع والعشرين من رمضان، في وقت الافطار، والعائلة مجتمعة لتفاجأ بجحافل الامن بكل انواعه وتشكيلاته مصحوبة بأنياب ورشاشات، يعمل في البيت ما شاء حجزا واستيلاء، لكن لا أموال ولا اسلحة مما كانوا يحسبون وجوده ببيت الغنوشي.
ومن يومها بدأت عمليات تقميش الحجج، وتلفيق التهم، وتعداد الملفات، لصنع صورة ارهابي خطير، مهدد لأمن الدولة وللسلم الاجتماعي داخل البلاد وخارجها، فكان من ذلك أسماء قضايا أخرى من قبيل “التبييض” و”غرف” ملونة و “اجهزة سرية” … لوصف أكبر حركة وأعرقها في البلاد
خاضت اربع انتخابات فازت بها جميعها فما حاجتها للسرية، وقضايا “تسفير” لاتهام حزب كان وزيره للداخلية أول من تجرأ على تصنيف أنصار الشريعة جماعة ارهابية، وحظر تنظيمهم وحارب وجودهم، في وقت كان غيره ينشد حقهم في البقاء ويعارض هذا القرار ويحذر منه، بل يدعوه للتراجع عنه.
وعلى مثل هذا النهج التجريمي الجائر تساقطت بقية القضايا من لوبيات ومؤامرات لدرجة تحويل خطاب القيته، وقول قلته، تأبينا لأحد رجالات الحركة، وأخ في النضال واصفا اياه بأنه “كان لا يخاف ظالما ولا يخشى الطغاة” بأن ذلك توجه للأمن وتعريض بهم، على اعتبار ان الجماعات المسلحة تستخدم هذا الوصف، وصولا الى تحويل مسامرة رمضانية الى “مؤامرة” استنادا الى أنني حذرت من الاستمرار في سياسة اقصاء المعارض،
واستئصال المخالف ونبذ المختلف، داعيا الى الوحدة الوطنية والحوار الشامل بلا استثناء، وتاسيس تونس الجامعة لكل ابنائها على تباين رؤاهم ومواقفهم، وبنائها بكل السواعد،
حولوا هذا التحذير الى دعوة وهمية للاقتتال، بينما هذه الحركة المستنبتة في التربة التونسية المتشبعة من الاسلام الوسطي المتبنية للديمقراطية منهجا داخلها وفي تعاملها مع غيرها، عمرها تجاوز اليوم نصف قرن كان عمرها كله هدفا وموضوعا للعنف لا مصدرا له، مستهدفة بالإقصاء لا ممارسة له، ضحية للعنف وجور الحكام، وليست مصدرا لذلك ابدا،
كان خطابا محذرا من العواقب الوخيمة للإقصاء والتفرد والغاء الاخر، عواقب طالما اسقطت اوطانا واطاحت بنظم ودمرت حضارات،
فالحركة منذ نشأتها وهي لا تفتأ تنادي بمبدإ “تونس حرة تسع الجميع بلا اقصاء”، مبدأ كنا ولا نزال ندعو شبابها ومنخرطيها وكل انصارها للتعلق به وجعله منهج تعامل بينهم ومع غيرهم.
ولقد لخصنا مبادئ الحركة وأهدافها في شعار اساسي لا نزال نؤمن به هو الدعوة الى “الديمقراطية الاسلامية” التي لا تضيق دون احد فتسع الجميع: اسلامي ديمقراطي، علماني ديمقراطي، لا تنبذ الا من كان استئصاليا إقصائيا مصرا على الإنفراد والتفرد بتحديد حاضر البلاد ومستقبلها
وفرضه على كل التونسيين بالحديد والنار وهو جوهر اختلافنا مع بورقيبة واصطدامنا مع بن علي ومعارضتنا للنظام القائم، كلهم اشتركوا في اقامة حكم انفرادي متسلط لا يعترف بالتعددية ولا يعطي حقوقا متساوية للمواطنين.
كان هذا مشكلنا مع كل الانظمة التي مرت على البلاد منذ الاستقلال ولا نزال حيث كنا، ننشد اللقاء مع الجميع على قاعدة تلك المبادئ، نلتقي لقاء الفكرة ولا نلتقي كلقائنا الان: اسلامي، ليبرالي، يساري وغيره في السجون والمعتقلات، او مشردين في دول العالم تيارات اختلفت في رؤاها والتقت في سجون الدكتاتورية ومنافيها.
هنا في المرناقية جوهر بن مبارك، رضا بلحاج، غازي الشواشي، خيام التركي، عصام الشابي، عبد الحميد الجلاصي، لطفي المرايحي، حبيب اللوز، بشير العكرمي وآخرون، مختلفون لكن تجمعهم معارضة الدكتاتورية،
فرقتهم السياسة وباعدتهم الايديولوجيا وجمعهم سجن الدكتاتورية وقيود الاستبداد، هنا في المرناقية قيادات نهضاوية تاريخية أمضت شطرا كبيرا من اعمارها بالسجون مثل المهندس علي العريض، والمهندس عبد الكريم الهاروني، والاستاذ نور الدين البحيري.
يمينا ويسارا معتقلون بأمر من الدكتاتورية والحاكم المستبد على انهم “ارهابيون” فمن يصدق ان هؤلاء ارهابيون، وان الديمقراطي المعتدل هو من صادر الحريات، ومنع التعبير، وحاصر القضاء، من يصدق أن الديمقراطي المعتدل هو من الغى الدستور وحل المؤسسات المنتخبة شعبيا بما في ذلك مجلس النواب المنتخب شعبيا ذو السبعة عشر حزبا عدا المستقلين فيه.
من سجن المرناقية بعد عامين اصرح أنني لا ازال على قناعة كاملة بأنه كما الامس كما اليوم كما الغد لا مخرج من الاخطار المحدقة بتونس والتي اخذت تنفجر من نفس مواضع انفجار ثورة الحرية والكرامة، وهذا لا يخلو من دلالة، انه لا حل للأخطار المتربصة بتونس دون حريات وديمقراطية، تسع الجميع دون اقصاء، والتخلي عن وهم الوصاية التي ادعاها القدامى واعاد صياغتها المحدثون، في ممارسة كانت دائما نتيجتها كارثية.
وأنا ادخل ثالث اعوامي معتقلا بسجن الاستبداد لا أزال على قناعة ثابتة انه لا حل دون حرية مسؤولة تقبل الجميع وعدالة لا تستثني احدا وديمقراطية للجميع على اساس حقوق متساوية، هذا ما آمنا به ودعونا اليه ولا نزال معتصمين به، ونعتبره الحل الذي جرب فصح.
من سجن المرناقية وبعد سنتين من الحصار اجد نفسي مطمئنا مؤمنا بأن هذا البلد المنكوب بالدكتاتوريات المتعاقبة وانظمة الحزب الواحد أو الفرعون الواحد، البلد الذي كانت له الريادة في تفجير ثورات سلمية غايتها التحرر آخرها ثورة الياسمين 17/14 والتي الهمت العالم واثبتت بعد مقولة نهاية التاريخ ونهاية الثورات أن الانسان لا يزال ممتلئا توقا للحرية،
وان الاستبداد والظلم لا يعني الا شيئا واحدا أن موعد الشروق قد آن وأن تونس التي صنعت فجر الربيع العربي الذي كيد له فتعثر، تونس التي عاشت الحرية لعشرة سنوات ونظمت الانتخابات تأسيسية وتشريعية وبلدية بمعايير العصر من تعددية وشفافية واستقلالية قبل الانقلاب على مؤسساتها والانحراف بمسارها، كل ذلك دليل على ما بتربتها من جذور للديمقراطية والحرية والتعددية عميقة عمق تاريخها، وأن ما صنع بالأمس قادر أن يصنع اليوم وغدا مرة اخرى في تونس لإعلاء راية الحرية مرة أخرى.
من سجن المرناقية تحياتي الى كل المناضلين من أجل الحرية، تحياتي إلى أبطال غزة العزة وأبطال الضفة والقدس، الذين يرابطون دفاعا عن مقدسات الأمة
وقد قدموا لهذه الأمة مثلا في الصمود والثبات، بما يمثل قوة تجديد ودفع واستنفار وإيقاظ وبطولة و يُبشّر بعالم جديد: عالم الحرية والعدل، وحري بشباب بلادنا وأمتنا أن يكون في طليعة المناصرين لقضيتنا المركزية والا يتأخروا عن هذه المسيرة المباركة.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
من سجن المرناقية تحياتي الى كل المناضلين من أجل الحرية.
المرناقية في 17/04/2025
راشد الغنوشي
رئيس آخر مجلس نواب شعب منتخب